سورة الحجرات - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الناس إِنَّا خلقناكم من ذَكَرٍ وأُنثى} آدم وحوّاء، أو: كل واحد منكم من أبٍ وأم، فما منكم من أحد إلا وهو يُدلي بما يُدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا معنى للتفاخر والتفاضل بالنسب. وفي الحديث: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقى» وقال أيضاً: «ثلاثة من أمر الجاهلية: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والدعاء بدعاء الجاهلية» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
{وجعلناكم شعوباً وقبائلَ} الشعوب: رؤوس القبائل، مثل ربيعة ومضر، والأوس والخزرج، واحدها: شَعب- بفتح الشين- سُمُّوا بذلك لتشعُّبهم كتشعُّب أغصان الشجرة، والقبائل: دون الشعوب، واحدها: قبيلة، كبَكر من ربيعة، وتميم من مضر. ودون القبائل: العمائر، جمع عَمارة بفتح العين، وهم كشيبان من بكر، ودارم من تميم، ودون العمائر: البطون، واحدها: بطن، وهي كبني غالب ولؤي من قريش، ودون البطون: الأفخاذ، واحدها: فَخْذ، كهاشم وأمية من بني لؤي، ثم الفصائل والعشائر، واحدها: فصيلة وعشيرة، فالشعب تجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعَمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل. وقيل: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والأسباط من بني إسرائيل. {لِتَعارفوا} أي: إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضُكم نسبَ بعض، فلا يتعدّى إلى غير آبائه، لا لتتفاخروا بالأجداد والأنساب.
ثم ذكر الخصلة التي يفضل بها الإنسان، ويكتسب الشرفَ والكرمَ عند الله، فقال: {إِنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم} أي: لا أنسبكم، فإنَّ مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى، فمَن رام نيل الدرجات العلا فعليه بالتقوى، قال صلى الله عليه وسلم: «مَن سَرّه أن يكون أكرم الناس فليتقِ الله» ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم فتح مكة، ثم حمد الله، وأثنى عليه، وقال: «الحمد لله الذي أذهب عُبِّيَّةَ الجاهلية وتكبُّرها؛ يا أيها الناس؛ إنما الناس رجلان: رجل مؤمن تَقيّ كريمٌ على الله، ورجل فاجر شقي هَيِّن على الله» ثم قرأ الآية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقى. وقال قتادة: أكرم الكرم التقى، والأمُ اللؤم الفجور، وسُئل عليه السلام عن خير الناس؟ فقال: «آمرُكم بالمعروف، وأنهاكم عن المنكر، وأوصلكم للرحم» وقال عمر رضي الله عنه: كرم الرجل: دينه وتقواه، وأصله: عقله، ومروءته: خُلقه، وحَسَبُه: ماله.
وعن يزيد بن شَجَرَةَ: مرّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة، فرأى غلاماً أسود، قائماً يُنادَى عليه؛ مَن يزيد في ثمنه، وكان الغلام يقول: مَن اشتراني فعلى شرط ألاَّ يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتراه بعضهم، فعادَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم تُوفي، فتولى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غُسله وتكفينَه ودفنَه، فقالت المهاجرون: هاجرنا ديارنا وأموالنا وأهلينا، فما نرى أحداً منا لقي في حياته ولا موته ما لقي هذا الغلام، وقالت الأنصار: آويناه ونصرناه وواسيناه بأموالنا، فآثر علينا عبداً حبشيّاً، فنزلت.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا ينظر إلى صُوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، وإنما أنتم بنو آدم، أكرمكم عند الله أتقاكم، وأنتم تقولون: فلان ابن فلان، وأنا اليوم أرفَع نسبي وأضع أنسابكم، أين المتقون» وقيل: يا رسول الله، مَن أكرمُ الناس؟ قال: «أتقاهم». اهـ. وأنشدوا:
مَا يَصْنع الْعَبدُ بعِزّ الْغِنَى *** وَالْعِزُّ كُلُّ العزِّ للمُتَّقِي
مَنْ عرف الله فلم تُغنِه *** مَعرفةُ الله فذاك الشَّقِي
{إِنّ الله عليمٌ خبير} عليم بكرم القلوب وتقواها، خيبر بهمم النفوس في هواها.
الإشارة: كان سيدنا عليّ رضي الله عنه يقول: «ما لابن آدم والفخر، أوله نُطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وفيما بينهما يحمل العذرة» وكان يُنشد:
الناسُ من جِهة التمثيل أَكْفاءُ *** أَبوهم آدمٌ والأم حوّاءٌ
ومَن يَرْمِ منهُم فَخْراً بذي نَسب *** فإن أصْلَهُم الطِّينُ والماءُ
مَا الفخرُ إلا لأهل العِلم إِنَّهمُ *** علَى الهدى لَمن اهتدى أدلاَّءُ
وقَدْرُ كل امرِىءٍ ما كان يُتقنُه *** وَالجاهلون لأهل العلم أعداءُ
وقوله: ما لفخر إلا لأهل العلم... إلخ، يعني: لو كان الفخر مباحاً ما أُبيح إلاّ لهم، وإلا فهم أولى بالتواضع، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال: «مَن تواضع دون قدرِه رفعه الله فوق قدره» فما رفع اللّهُ قدر العلماء إلا بتواضعهم حتى ينالهم الشريفُ والوضيع، الصغيرُ والكبير، والقوي والضعيف، فمَن لم يكن هكذا فليس بعالِم؛ لنّ الخشية تحمل على التواضع، ومَن لم يخشَ فليس لعالم حقيقة. قال تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وقوله تعالى: {إِنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم} اعلم أنَّ نصيب كل عبد من الله تعالى على قدر تقواه، وتقواه على قدر توجهه إلى الله، وتوجهه على قدر تفرُّغه من الشواغل، وتفرُّغه على قدر زهده، وزهده، على قدر محبته، ومحبته على قدر علمه بالله، وعلمه على قدر يقينه، ويقينه على قدر كشف الحجاب عنه، وكشف الحجاب على قدر جذب العناية، وجذب العناية على قدر السابقة، وهي سر القدر الذي لم يُكشف في هذه الدار. وسقوط العبد من عين الله على قدر قلة تقواه، وقلة تقواه على قدر ضعف توجهه، وضعف توجهه على قدر تشعُّب همومه، وتشعُّب همومه على قدر حرصه ورغبته في الدنيا، ورغبته في الدنيا على قدر ضعف محبته في الله، وضعف محبته على قدر جهله به، وجهله على قدر ضعف يقينه، وضعف اليقين من كثافة الحجاب، وكثافة الحجاب من عدم جذب العناية، وعدم جذب العناية من علامة الخذلان السابق، الذي هو سر القدر. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جلّ جلاله: {قالت الأعرابُ} أي: بعض الأعراب {آمنّا} نزلت في نفر من بني أسد، قدِموا المدينةَ في سنة جدبة، فأَظْهَروا الإسلام، ولم يُؤمنوا في السر، وأفْسَدوا طُرق المدينة بالعذَرَات، وأغْلَوا أسعارها، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نُقاتلك كما قتلك بنو فلان، وهم يريدون الصدقة، ويقولون: أعطنا، ويمنّون بإسلامهم.
{قل} لهم: {لم تؤمنوا} لم تُصدّقوا بقلوبكم {ولكن قولوا أسْلَمنا} فالإيمان هو التصديق بالقلب مع الإذعان به، والإسلام هو الدخول في السِّلْم، والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين؛ ألا ترى إلى قوله: {ولمَّا يَدْخُلِ الإِيمانُ في قلوبكم} فهو يدل على أنَّ مجرد النطق بالشهادتين ليس بإيمان، فتحصَّل أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة للقلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلبُ اللسانَ فهو إيمان، وهذا من حيث اللغة، وأما في الشرع فهما متلازمان، فلا إسلام إلا بعد إيمان، ولا إيمان إلا بعد النطق بالشهادة إلا لعذر.
والتعبير ب {لمّا} يدل على أن الإيمان متوقَّع من بعضهم وقد وقع. فإن قلت: مقتضى نظم الكلام أن يقول: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، أو: قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؟ قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً، فقيل: قل لم تؤمنوا، مع حسن أدب، فلم يقل: كذبتم صريحاً، ووضع {لم تؤمنوا} الذي هو نفس ما ادَّعوا إثباته موضعه، واستغنى بقوله: {لم تؤمنوا} عن أن يقال: لا تقولوا آمنا؛ لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان، ولم يقل: ولكن أسلمتم؛ ليكون قولهم خارجاً مخرج الزعم والدعوى، كما كان قولهم: {آمنا} كذلك، ولو قيل: ولكن أسلمتم؛ لكان كالتسليم، والاعتداد بقولهم، وهو غير معتدّ به.
وليس قوله: {ولمّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم} تكريراً لمعنى قوله: {لم تؤمنوا} فإنّ فائدة قوله: {لم تؤمنوا} تكذيب دعواهم، وقوله: {ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم} توقيت لما أُمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم: ولكن قولوا أسلمنا حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم؛ لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في {قولوا}. قاله النسفي.
{وإِن تُطيعوا اللّهَ ورسولَه} بالإخلاص وترك النفاق {لا يَلِتْكُم من أعمالكم شيئاً} من أجورها. يقال: ألَت يألِتُ، وألات يُليت، ولات يلِيت، بمعنى، وهو النقص، {إِنَّ اللّهَ غفور} لما فرط من الذنوب، {رحيمٌ} يستر العيوب.
{إِنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسولِه ثم لم يرتابوا} لم يَشُكُّوا، من: ارتاب، مضارع رابه: إذا أوقعه في الشك والتُهمة، والمعنى: أنهم آمنوا ثم لم يقع في إيمانهم شك فيما آمنوا، ولا اتهام لمَن صدّقوه، ولمَا كان الإيقان وزوال الريب ملاك الإيمان أُفرد بالذكر بعد تقدُّم الإيمان، تنبيهاً على عُلو مكانه، وعُطف على الإيمان بثمّ؛ إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضّاً جديداً.
{وجاهدوا بأموالهم وأنفسِهم في سبيل الله} أي: جاهَدوا ما ينبغي جهاده في الكفار والأنفس والهوى، بالإعانة بأموالهم، والمباشرة بأنفسهم في طلب رضى الله: {أولئك هم الصادقون} أي: الذي صدقوا في قلوبهم: آمنا، لم يُكذِّبوا كما كذَّب أعرابُ بني أسد؛ بل إيمانهم إيمان صِدق وحق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مذهب الصوفية: أن العمل إذا كان حدّه الجوارح الظاهرة يُسمى مقام الإسلام، وإذا انتقل لتصفية البواطن بالرياضة والمجاهدة يُسمى مقام الإيمان، وإذا فتح على العبد بأسرار الحقيقة يُسمى مقام الإحسان، وقد جعل الساحلي مقامَ الإسلام مُركّباً من ثلاثة: التوبة والتقوى والاستقامة، والإيمانَ مُركباً من الإخلاص والصدق والطمأنينة، والإحسانَ مُركّباً من المراقبة والمشاهدة والمعرفة، ولكلٍّ زمان ورجال تربية واصطلاح في السير، والمقصد واحد، وهو المعرفة العيانية.
قال القشيري: الإيمان هو حياة القلوب، والقلوب لا تحيا إلا بعد ذَبْح النفوس، ولنفوس لا تموت ولكنها تغيب. اهـ. أي: المقصود بقتل النفوس: هو الغيبة عنها في نور التجلِّي، فإذا وقع الفناء في شهود الحق عن شهود الخلق فلا مجاهدة. وقال القشيري في مختصره: {قالت الأعراب آمنّا...} إلخ، يُشير إلى أنّ حقيقة الإيمان ليست مما يتناول باللسان، بل هو نور يدخل القلوب، إذا شرح الله صدر العبد للإسلام؛ كما قال تعالى: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22]، وقال عليه السلام في صفة ذلك النور: «إنّ النور إذا وقع في القلب انفسح له واتسع»، قالوا: يا رسول الله؛ هل لذلك النور من علامة؟ قال: «بلى؛ التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت. قبل نزوله» لهذا قال تعالى {ولمّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم} أي: نور الإيمان. اهـ.
{وإن تطيعوا الله ورسوله} في الأوامر والنواهي بعد ذبح النفوس بسيف الصدق {لا يَلِتكم من أعمالكم شيئاً} بل كل ما تتقربون به إلى الله من مجاهدة النفوس ترون جزاءه عاجلاً، من كشف غطاء وحلاوة شهود، إن الله غفور لمَن وقع له فتور، رحيم بمَن وقع منه نهوض، {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله} وشاهَدوا أنواره وأسراره، {ورسولِهِ} حيث عرفوا حقيقته النورانية الأولية، {ثم لم يرتابوا} لم يخطر على بالهم خواطر سوء، ولا شكوك فيما وعد الله من الرزق وغيره؛ لأنَّ حجاب نفوسهم قد زال عنهم، فصار الغيب شهادة، والخبر عياناً، والتعبير ب {ثم} يقتضي تأخُّر تربية اليقين شيئاً فشيئاً حتى يحصل التمكين في مقامات اليقين، مع التمكين في مقام الشهود والعيان.
ثم ذكر سبب إزاحة الشكوك عنهم بقوله: {وجاهَدوا بأموالهم} حيث بذلوها لله {وأنفسِهم} حيث جاهدوها في طلب الله {أولئك هم الصادقون} في طلب الحق، فظفروا بما أمّلوا، وربحوا فيما به تجروا. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.


يقول الحق جلّ جلاله: {قل أتُعَلِّمون اللّهَ بدينِكم} أي: أتُخبرونه بذلك بقولكم آمنّا؟ رُوي أنه لمّا نزل قوله: {قل لم تؤمنوا} جاؤوا يحلفون إنهم لصادقون فأكذبهم الله بقوله: {قل أتُعلمون..} إلخ. والتعبير عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم، كأنهم وصفوه تعالى بالجهل. قال الهروي: وعلَّمت وأعلمت في اللغة بمعنى واحد، وفي القاموس: وعلّمه العلم تعليماً، وأعلمه إياه فتعلّمه. اهـ. {واللّهُ يعلمُ ما في السماوات وما في الأرض} فلا يحتاج إلى إعلام أحد، وهو حال مؤكدة لتشنيعهم، {واللّهُ بكل شيءٍ عليمٌ} أي: مبالغ في العلم بجميع الأشياء، التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند أظهارهم الإيمان.
{يمنُّون عليك أنْ أسْلَموا} أي: يعدون إسلامهم مِنّة عليك، ف {أن} نصب على نزع الخافض، والمَنُّ: ذكر النعمة في وجه الافتخار. وقال النسفي: هو ذكر الأيادي تعريضاً للشكر، ونهينا عنه. اهـ. فانظره. {قل لا تمنُّوا عليَّ إِسلامَكم} أي: لا تعدوا إسلامكم منةً عليَّ، فإنّ نفعَه قاصرٌ عليكم إن صح، {بل الله يَمُنُّ عليكم} أي: المنة إنما هي لله عليكم {أنْ هداكم للإِيمان} أي: لأن هداكم، أو: بأن هداكم للإيمان على زعمكم {إِن كنتم صادقين} في ادّعاء الإيمان، إلاَّ أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه. وجواب الشرط محذوف؛ لدلالة ما قبله عليه؛ أي: إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان فللّه المنّة عليكم.
وفي سياق النظم الكريم من اللُطف ما لا يخفى؛ فإنهم لمّا سَموا ما في صدورهم إيماناً، ومَنُّوا به، نفى تعالى كونه إيماناً، وسمّاه إسلاماً، كأنه قيل: يمنون عليك بما هو في الحقيقة إسلام وليس بإيمان، بل لو صحّ ادّعاؤهم للإيمان فللّه المنّة عليهم بالهداية إليه لا لهم.
{إِنَّ اللّهَ يعلمُ غيبَ السماوات والأرض} أي: ما غاب فيهما، {والله بصير بما تعملون} في سِركم وعلانيتكم، وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم، يعني: الله تعالى يعلم كل مستتر في العالَم، ويُبصر كل عمل تعملونه في سِركم وعلانتيكم، لا يخفى عليه منه شيء، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم. قال الورتجبي: ليس لله غيب، إذ الغيب شيء مستور، وجميع الغيوب عِيان لله تعالى، وكيف يغيب عنه وهو موجده؟! يُبصرُ ببصره القديم ما كان وما لم يكن، وهناك العلم والبصر واحد. اهـ. قوله: العلم والبصر واحداً هذا على مذهب الصوفية في أن بصره يتعلق بالمعدوم، كما يتعلق به العلم، ومذهب علماء الكلام: أن متعلق البصر خاص بالموجودات، فمتعلق العلم أوسع. وانظر حاشية الفاسي على الصغرى.
الإشارة: كل مَن تمنى أن يعلم الناسُ ما عنده من العلم والسر؛ يُقال له: أتُعلِّمون الله بدينكم، والله يعلم ما في سموات القلوب والأرواح من السر واليقين، وما في أرض النفوس من عدم القناعة بعلم الله، والله بكل شيء عليم.
وفي الحكم: (استشرافك أن يعلم الناس بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك). وكل مَن غلب عليه الجهل حتى مَنَّ على شيخِه بصُحبته له، أو بما أعطاه، يقال في حقه: {يمنون عليك أن أسلموا...} الآية. وقوله تعالى: {والله بصير بما تعملون} قال القشيري: فمَن لاحَظَ شيئاً من أعماله وأحواله؛ فإن رآها من نفسه كان شِركاً، وإن رآها لنفسه كان مكراً، وإن رآها من ربه بربه كان توحيداً. وفقنا الله لذلك بمنِّه وجوده. اهـ.
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً.

1 | 2 | 3